عندما كنا صغاراً كان الأهل يغرسون فينا قيمهم ، ليست قيمهم فحسب ، ولكن أيضاً أفكارهم وقناعاتهم .
كنا حينها نراها حقائق كونية غير قابلة للنقاش أو التكذيب ، غير قابلة حتى لمجرد التفكير فى صحتها أو مناقشتها .
وعندما كبرنا قليلاً وأختلطنا بأص
دقاء لنا ، ربما من بيئات مختلفة ، وربما نبتوا على قيم وأفكار تختلف قليلاً عما نبتنا وتربينا عليه ، كانت هذه أول مواجهة لقناعاتنا مع العالم الخارجى ، ذاك العالم الذى يقبع خارج حدود أسرتنا الصغيرة ، ولكننا وقتها كنا لانزال تحت قبة هذا العالم الصغير جداً فى الواقع والذى يمثل لنا العالم بأسره ، العالم الذى نعتبر أن أى شيئ دونه هو عالم من الفضاء الخارجى ، هذا هو عالمنا الذى نشأنا فيه وغرس فينا قيمنا وعشنا تحت تأثيره زمناً طويلاً .
حتى اذا تشككنا بفعل الاصدقاء فى بعض قناعاتنا وقيمنا ، هرعنا الى اهلينا وواجهناهم بتلك الاعتراضات والتشككات ، وكان لديهم وقتها كل الحجج والبراهين على أن قناعاتنا هى الصحيحة ومبادئنا هى القويمة وان كل ما عدا ذلك هو انحراف عن الحق وخروج عن الفضيلة .
لم تكن حججهم قوية ، ولم تكن براهينهم دامغة ، ولكننا كنا نريد ان نصدق ، كنا نريد ان نشعر اننا على صواب ، نحن فقط الحق المطلق .. وكل ماعادانا اما حق تشوبه الشوائب ، او هو باطل يرتدى ثوب الحق .
ومرت اعوام اخرى وكبرنا لدرجة جعلتنا نملك زمام امورنا ، ولا زلنا على قيمنا وقناعاتنا حتى بعد ان خرجنا من شرنقة الاهل، وبدانا نحن ننسج شرنقتنا الخاصة ، ونصيغ نفس القيم ونفس القناعات التى تربينا عليها ، ربما زدنا عليها قليلاً ، وربما اعدنا صياغة بعضها بلغة اليوم ، وربما اضفنا عليها بعض لمساتنا الشخصية ، ولكنها بقيت هى نفس القيم ونفس القناعات .
وبدأت قراءاتنا تتنوع ، وبدأ نطاق معرفتنا بالناس يتسع ، وبدأنا ننفتح اكثر واكثر على عوالم جديدة ، وكلما اصطدمت افكارنا بما نراه ونسمعه حولنا كلما اتسعت الفجوة بين ما نبتنا وتربينا عليه وبين ما نراه ونلمسه ممن حولنا ، ولكننا بقينا مؤمنين بما غرسه الاهل فى نفوسنا ونحن نبتة صغيرة غضة فى مقتبل عمرنا .
ولكن .. بعد ان اختبر الزمان عزمنا ، وبعد ان نضجت بالتجارب والخبرات عقولنا ، وبعد ان تجاوزنا العقد بعد العقد ، حتى صرنا على مشارف عقود الحكمة ، آن لنا أن نقف وقفة مع تلك الغروسات القديمة .
جميلة هى القيم .. مخيفة هى القناعات
عظيمة هى المبادئ .. مضللة هى الثوابت
لم يكتف أهلنا بغرس القيم والمثل العليا فى قلوبنا الصغيرة ، تلك القيم المستقاه من نبع كلام الجليل ومن سيرة سيد المرسلين .
ولكنهم غرسوا معها ، قناعات وأفكار وانطباعات وآراء ورؤى خاصة بهم .
وفى هذا السن الصغير ، وفى تلك الفترة الحرحة من العمر التى يكون فيها الطفل كلوح اردواز خالى تماما من اى نقوش ، نقشوا مبادئ وقناعات وقيم وآراء فلم نستطع نحن ان نفرق بين المطلق والنسبى ، بين الثوابت والآراء ، وكلما اشتد عودنا اشتدت صلابة لوح الاردواز ، فصار كالحجر وصار ما نقش عليه جزء منه لا يمحى الا بتكسير الحجر .
لازلنا حتى الآن نخلط بين المطلق والنسبى ، بين الحقائق والثوابت التى لا تتغير ولا يحوز التشكيك بها ، وبين الرؤى والأفكار التى تتباين وتختلف وكل يوم يمر يثبت صحة بعضها وخطأ البعض الآخر .
لدينا مشكلتان آن لنا أن نتصطدى لهما ..
الاولى .. أن كثير مما غرس فينا ونقش فى عقولنا وقلوبنا ونحن صغار هى رؤى وافكار و قناعات تخص اصحابها لا تخصنا نحن .
والثانية .. اننا يجب ان نفرق دائما ونحن نقرا او نسمع او نعى بين ما هو مطلق ثابت وبين ماهو نسبى متغير .
ليس عيباً ان نعرف اننا عشنا عقوداً من عمرنا نتبنى افكاراً خاطئة ، ولكن العيب كل العيب ان نستمر على تلك الافكار او ان تاخذنا العزة ولا نراجع قناعاتنا وافكارنا لمجرد اننا نرفض ان نواجه انفسنا باننا عشنا كل هذا العمر مخدوعين بتلك القناعات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق