الرحلة

جلس شاردا ينظر إلى أكوام الملفات فوق مكتبه ، شعر بالملل ، بل شعر بأنه يختنق ، روتين حياته لايتغير ، ينظر إلى نفس الوجوه ، يقرأ نفس الأوراق ، يقوم بنفس الأعمال ، حتى فنجان القهوة لايتغير ، حتى الأخبار فى الجريدة اليومية شعر انها تتكرر . تراجع فى بطئ داخل مقعده الوثير وأطاح برأسه إلى الخلف وكأنه يحاول التخلص مما تراكم فى رأسه من مشاهد وأحداث ، وفجأة وهو فى تلك الحالة برق له امل ، ماذا لو إغتنمت أجازة فى مثل هذا الوقت ، إنه فصل الشتاء وأجازة نصف العام على الأبواب ، ستكون مفاجاة جميلة يسعد بها الأولاد ، وستكون رحلة جميلة أتخلص فيها من هذا الركام الذى أثقلنى ، وهذا الروتين اليومى الذى كاد أن يقتلنى . وبسرعة فتح دفتر العناوين وبحث عن وكيله السياحى الذى ينظم له رحلاته ، " هاهو الرقم " تمتم فى سعاده وهو يضغط أزرار التليفون ليسمع صوتا على الجانب الآخر " أى خدمة ياأفندم " فاجاب فى تعجل عايز أسافر فى رحلة " ، وتعلل الطرف الآخر ببعض الأسباب وطلب منه الحضور لترتيب الرحلة والإتفاق على المواعيد .
وبعد نهاية يوم طويل من العمل أسرع إلى شركة السياحة ، وتوجه إلى الموظف الذى يعرفه جيدا " إزيك يا استاذ أشرف "  سلم عليه أشرف بإحترام : " الحمد لله ، إتفضل يا أفندم " شكره وجلس أمامه وبادر " عايز آخد الولاد رحلة لشرم الشيخ " فأجفل أشرف لحظات ثم أجاب : " حضرتك تقصد فى أجازة نصف العام "،  فأجاب : " نعم " فعاد أشرف يسأل : " الأجازة دى ؟ يعنى كمان إسبوع؟ " فاجاب بتعجب : " أيوه ؟؟ إيه المشكلة ؟ " فقال أشرف بنبرة يشوبها الإعتذار : " أعتقد مش حنلحق " ، فرد سريعا : " مش حنلحق إيه؟؟ " ، أشرف : " مش حنلحق ناخد التأشيرات " ، " تأشيرات؟؟" أضاف فى تعجب " هى شرم الشيخ ليها تأشيرات " .
فنظر إليه أشرف نظرة تجمع بين العتاب والتعجب " حضرتك بتهزر ولا بتسخر منى " فقال فى إنفعال : " أسخر منك ليه ؟ تاشيرات إيه الى ناخدها لشرم الشيخ ؟؟ " وهنا قال أشرف بجدية : " حضرتك عارف شرم الشيخ عاصمة جمهورية سيناء ، والعلاقات الدبلوماسية سيئة للغاية بيننا فى هذه الأيام " ، فقال وهو على وشك الإنهيار : " بتتكلم بجد الكلام ده من إمتى ؟؟ " قال أشرف وقد ضاق ذرعا بأسئلته الغريبة " من سنتين ، هو حضرتك كنت مسافر ؟؟ " .
إستدار فى بطء ، وجر قدميه إلى أن وصل إلى سيارته وهو فى حالة ذهول ، ووصل إلى بيته ، وأمسك سماعة التليفون ، وعاود الإتصال : " ألوأشرف ، طيب ممكن نروح الأقصر " وبرقت عيناه وأغلق السماعة دون أن ينطق بحرف واحد ، إستدارصوب حجرته وزوجته تناديه  " مالك فيه إيه ؟ حصل حاجة فى الشغل ؟ " إرتمى فوق سريره وقد شعر بتعب السنين يجثم فوق كاهله ، وتمتم " جمهورية مصر الجنوبية عاصمتها أسوان ".
صوت يصيح فى أذنه " إصحى الساعة 7 حتتأخر " كانت زوجته توقظه كالعادة ، هب جالسا على غير عادته ، فرك عينيه ، أخذ يبحث عن ريموت التلفزيون ، قناة الأخبار ، ماهذا ؟ رئيس الوزراء فى شرم الشيخ يفتتح مشروعا جديدا ، المؤسسات السياحية فى أسوان تصرح نسبة الإشغال فى الفنادق 100 % ، صرخ بأعلى صوته: " كان حلم كان حلم الحمد لله الحمد لله " ، نظرت إليه زوجته فى دهشة " مالك فى إيه ؟؟ " لم يرد ، نهض مسرعا ، إرتدى ثيابه وكأنه يسابق الزمن ، توجه إلى شركة السياحة ، لم تفتح بعد ، ترجل من سيارته أخذ يمشى جيئة وذهابا فى الشارع ، حتى شاهد موظفى الشركة يتوافدون ، أسرع بالدخول " صباح الخير ، الأستاذ أشرف وصل " خاطب موظفة الإستقبال فأجابت " أيوه يا افندم إتفضل " فأسرع إلى مكتبه وحياه بحرارة تعجب لها اشرف وقال فى لهف " لو سمحت عايز أروح أنا والولاد رحلة للقدس " فنظر له أشرف وقال بأدب " حضرتك تقصد القدس ؟؟ إسرائيل يعنى ؟ " فقال له : إسرائيل إيه ؟ القدس بتاعتنا "  فقال له اشرف حضرتك عارف يا افندم إن القدس من سنة 1948 تحت الإحتلال الإسرائيلى ومش ينفع حد يروحها ببساطة كده " ترك أشرف يستطرد فى حديثه وإستدار فى هدوء وسط نظرات الجميع وتوجه ناحية الباب ، صاح به أشرف " رايح فين يا أفندم؟؟ طيب ممكن تروح شرم الشيخ أو الأقصر لو تحب ؟" أجاب بصوت خافت يشوبه الحزن وتملؤه خيبة الأمل : " يارب أكون بأحلم ، يعنى إيه إسرائيل محتلة القدس ؟ طيب وإحنا ساكتين من يومها ليه ؟ ، و هوإيه الى أشرف بيقوله ده ؟ ، يعنى إيه مصر وفلسطين والعراق والكويت ؟ ، هو مش برضه إحنا كلنا بلد واحدة وشعب واحد ، ،هو إحنا مش كلنا كنا حاجة واحدة ؟ ، إيه الى الحصل ؟ ، يارب أكون بأحلم يارب أكون بأحلم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق