ذكرى أم قدر


لأنى أحب السفر والترحال منذ نعومة أظافرى ، فما إن إشتد عودى حتى قمت برحلتى الأولى إلى الخارج ، رحلة إلى إحدى جزر اليونان ، هذه الجزيرة الجميلة التى أخذت قلبى قبل أن تأخذ عينى وعقلى ، كان هناك دائما شيئ غامض يربطنى بهذه الجزيرة وبأهلها ، سافرت كثيرا بعدها لعدة دول أوروبية وعربية ، لكنى لم أشعر بهذا الإرتباط بينى وبين مكان أو أناس ، مثلما شعرت فى جزيرتى الحبيبة ، وكأن القدر كان ينسج خيوط علاقة وثيقة بينى وبين هذا المكان الساحر الرائع ،  إستأجرنا منزلا ريفيا فى إحدى القرى الصغيرة أنا واصدقاء لى ، وكنا نجوب الجزيرة شرقا وغربا ثم نعود إلى هذا المنزل وكأننا نعود إلى وطننا ، كانت قرية صغيرة لكنها أنيقة ونظيفة ، وكان أهلها غاية فى الكرم ، ودماثة الخلق ، كانت السيدات والفتيات يجلسن فى مكان صغير أمام منازلهن ، فى آخر ساعة من النهار ، كن يقمن ببعض الأشغال اليدوية  ، وكانت الفتيات يقرأن بعض الكتب والروايات ، كان يعجبنى فيهن ، جمالا فى الوجه ، وعفة فى العين ، ودماثة فى الخلق ، وإحتشام فى الملبس ، كان ملبسهن جميل وأنيق وبسيط ومحتشم ، كنا إذا نظرنا إلى إحدى الفتيات ولاحظت هى ذلك ، كانت تطرق بعينيها فى خجل ، وعندما كان السيدات يرسلن إلينا من حين الى آخر ببعض المخبوزات و الحلويات المنزلية من باب إكرام الجار ، كانت فتياتهن يأتين على إستحياء ، ويطرقن الباب فإذا أجاب أحدنا أعطينه الهدية على عجل ووجههن منكسات فى الأرض فى حياء وأدب ، وسرعان ما يختفين عائدات من حيث أتين .
وكان الرجال يرحبون بنا فى كل مكان فى القرية ، فى المقهى ، وفى الطرقات حتى فى المتاجر عندما كنا نشترى بعض الطعام ، ودائما ما يقلوننا بعرباتهم إذا صادفناهم فى أى مكان ، ربما كانت عربات بطيئة تختص بالعمل فى الحقول ، لكنهم جعلوها فارهة فخمة بما يضفون علينا من ترحيب وود وبشاشة وجه .
تعلقت بهذه الجزيرة وبأهلها ، تمنيت لو إستطعت البقاء هناك ابدا ، ولكنى كنت فى مقتبل عمرى وأمامى الكثير لأفعله ، وأمامى الكثير من البلاد لأكتشفها ، ولكنى فعلت الكثير وإكتشفت الكثير ولم أشعر مثل هذا الشعور الجميل بالحب والارتباط والإنجذاب لهذه الجزيرة الجميلة وأهلها ، وكأن شيئا غامضا فى هذه الجزيرة يميل إليه قلبى ، وكأنى تركت شيئا من نفسى هناك ، أو وجدت بعضا منى هناك ، من يدرى لعل الله قدر لى ما لا أحتسبه ، ولعل لى بهذه الجزيرة رجعة ، أو لى مع أهلها قرب وود ولقاء .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق