الرحيل



ذهبت اليوم الى المقابر لتشييع جنازة ، دائما كانت زيارة المقابر تهزنى من الداخل ، تعصف بقلبى وتثير فى نفسى الرهبة ، دائما تدمع عيناى وكنت وقتها لا أعلم هل تلك الدموع على الفقيد الذى أشيع جنازته أم هى دموع خوف ورهبة وترقب حيث يوما ما سأكون أنا صاحب الجنازة ، طالما كانت زيارة القبور تعصف داخلى وتهزنى بقوة.
اليوم كان الأمر مختلفا ، لم تعترينى تلك الرهبة ، لم أجد ذلك الحزن والخوف ولم تدمع عينى ، كنت أنظر الى القبور ببرود وأقرأ الأسماء بلا مبالاه ، سألت نفسى هل فقدت العظة من زيارة القبور ، هل قسى قلبى لدرجة أنى أصبحت لا أبالى ؟؟
فرددت على نفسى بنفس القدر من البرود والامبالاه .. أنه مآلنا عاجلا أم آجلا ، فلماذا الخوف أو الجزع ، إن كان قدر سيأتى لامحالة فلماذا التأخير ، لم أكن يوماً مستعداً للرحيل مثل الآن .. لست مستعداً بمعنى الكلمة ، ولكن ربما شعرت اليوم أنى أرغب فى ذلك بشدة .

8-10-2018

كنت مثلك

في هذه الدنيا نعيش في أفراح قصيرة وسعادة ناقصة مؤقتة ومشاعر سلبية كثيرة، أحيانا نشعر بخيبة أمل، ينتابنا اليأس، يغشانا الحزن، نشعر بالوحدة، وبقسوة الحياة، نفقد الثقة فيمن حولنا، من أصدقاء، وأحباء وربما أيضا أقرب الناس إلينا، بل أحيانا نفقد الثقة حتى في أنفسنا.
هو مثل الجميع تنتابه هذه المشاعر ويعيش هذه الفترات المتتابعة ويتأرجح في الدنيا بين هذه السعادة القصيرة وذلك الحزن الطويل والقلق المستمر وخيبات الأمل المتتابعة، كان يحب تصفح كتابات الناس، خواطرهم، وما يعبرون به عن مشاعرهم وخلجات نفوسهم، وكان كلما قرأ كلمات تحمل مشاعر حقيقية وتخفى بين طياتها صدى روح مرهفة، تجتذبه هذه الكلمات المؤثرة، لكن في الحقيقة يوجد سبب آخر لتأثره بهذه الكلمات، سببا آخر غير جمال نسقها وصدق ما تحمله من مشاعر، كانت هذه الكلمات تذكره بنفسه في فترة من فترات حياته، فترة من حياته كان يحب أن يسميها فترة ما قبل المعرفة، نعم .. هو الآن يدعى أنه يعرف .. يعرف الدنيا، وعندما أدرك حقيقتها، وعرفها فعلا، أصبحت ردود أفعاله مختلفة كثيرا عن ذي قبل، لم تختلف مشاعره يوما، ولم يفقد إيمانه بثوابته، ولم يتخل عن رهف مشاعره، لكن ردود أفعاله هي التي اختلفت.
كان يعيش في الدنيا وهو ينتظر ذلك اليوم الذي يمنحه الله فيه الحب الخالص الذي يخلصه من كل آلامه، كان ينتظر السعادة الكاملة التي لا يشوبها حزن ولا يعيبها نقصان، كان يأمل أن يعيش في مكان هادئ جميل، جميل في نسقه، هادئ في نظمه، يعيش فيه مع أناس يراعون مشاعر بعضهم، يحفظون العهد، يديمون الود، يخلصون بلا خيانة، يعطون بلا مقابل، ويعيشون بلا ضغينة.
لكنه بعد أن عرف حقيقة الدنيا، عرف أن هذه الأمنيات ماهي الا أحلام يقظة، وأنه كمن ينظر الى السراب وينتظر المعجزات في عصر باتت فيه المعجزات ضرب من المستحيل، عرف أن الدنيا سميت كذلك " الحياة الدنيا " لأنها حياة متدنية بالمعنى الحرفي، كل شيء فيها ناقص، متدني، ليس فيها سعادة بالمعنى المفهوم بل هي نبضات تأتى كل حين وآخر لتجعلنا نستطيع أن نكمل حياتنا حتى نصل الى نهايتنا المحتومة، لأن هذه النبضات من السعادة تأتينا بين ألم مستمر ومعناة دائمة، فهي كمسكن الألم يبقينا أحياء دون أن يغير من واقع الألم شيء. وكما هي دنيا متدنية تعطينا نبضات من السعادة القصيرة الناقصة، فهي أيضا تحمل، بين طياتها أناس ناقصون – كلنا ناقصون – لكل منا عيوبه وآثامه وأخطاءه ونقائصه، ربما تزداد عيوب البعض وشرورهم فيعرفهم الناس بأنهم أشرار، أو تزداد فضائل البعض ومحاسنهم فيعرفهم الناس بالطيبين، ولكن في النهاية كلنا ناقصون، لذلك عندما نحب أحدا أو نصادق أحدا، ونظن أننا نتعامل مع بشر في مرتبة الملائكة فنحن نظلم أنفسنا قبل أن نظلمهم، لابد أن نتعامل مع أحباءنا وأصدقاءنا والمقربون إلينا على أنهم بشر، يخطئون، ولكن ما يجعلهم يليقون بنا أنهم عندما يخطئون يرجعون عن خطأهم، يطلبون أن نسامحهم، يفعلون كل ما يمكن فعله حتى يعوضونا عن هذا الخطأ، عندها فقط يليقون بأن يكونوا من المقربين الى قلوبنا وحياتنا، ولكن إن لم يكونوا كذلك فيجب أن نتقبل أننا سنقابل الكثير من الناس الذين ننخدع بهم في البداية ثم نكتشف بعد زمن طال أو قصر أنهم لا يليقون بنا، هؤلاء الناس يتركون في نفوسنا جرحا – نعم – ولكن يجب ألا نعيش مع هذا الجرح ونغذيه بحسرتنا وألمنا فيظل يؤلمنا طويلا، بل يجب أن نعالج جرحنا بالصفح والإهمال، نصفح عنهم ، ونبتعد ونهملهم ونخرجهم سريعا من حياتنا وقلوبنا.
الصفح وسلامه الصدر والتسامح، هي أبواب السعادة في الدنيا، فالسعادة لا تأتى من خارجنا بل تنبع من داخلنا، فكلما حافظنا على صدورنا سليمة بلا ضغينة فنحن نجلب لأنفسنا سعادة عظيمة، وهنا يجب أن نوضح معنى السعادة، ويجب أن نذكر أن هناك سعادة في الدنيا ليست ناقصة، هناك مصدر واحد للسعادة التي تجعلنا نتحمل كل أعباء الحياة وقسوتها وغربتها ومنغصاتها، هذه السعادة كاملة لأنها لا تنتمي لهذه الدنيا، هي سعادة يمنحها الله لنا عندما يكون هو وحده في قلوبنا، وهذا مقام الحديث عن الحب.
الحب.. هناك مفهوم أساسي يمكن أن نبني عليه كل شيء عن الحب وعن السعادة، هذا المفهوم يقول بأن الحب لله فقط، وأي حب آخر لابد أن يكون من خلال هذا الحب وأن يكون أقل من هذا الحب، لأن الحب الحقيقي الخالص هو في الحقيقة عبادة، فالذي يصل الى أعلى مقامات الحب يجد حبيه هو مقصده، يريد أن يكون معه في كل وقت، لا يشبع من مناجاته ومن المكث الى جواره، يحب كل ما يحب حبيبه، ويكره كل ما يكرهه، يريد أن يفعل أي شيء ليسعد حبيبه، حتى يصل الى أعلى درجات الحب فيشعر أن ذاته اندمجت مع ذات حبيبه فيشعر أنهما شخص واحد وذات واحدة. أليست تلك هي العبادة؟ وهل يستحق هذه المنزلة غير الله؟
الله هو من خلقنا، وأعطانا روحا من روحه، اذا أحببنا الله بهذا المفهوم صار كل حب آخر نابع من حب الله، فلا يمكن أن نحب أنسانا أو شيئا يبغضه الله، ولا يمكن أن نكره شيئا يحبه الله، اذا أحببنا الله حقا، سيقذف الله في قلوبنا سعادة تنسينا غربة الدنيا وقسوتها وألمها، وسيكون كل حب يرضى الله عنه مصدر سعادة لنا، وسيرسل الله لنا من الأحباب والأصدقاء من يؤنسنا ويجعل دنيانا القاسية أجمل وأحلى مما هي عليه فعلاً، وهنا يأتي مقام الحديث عن العبادات.
فالعبادات ليست غايات كما يظنها الكثير من الناس، العبادات هي أدوات منحنا الله إياها لنستقبل السعادة التي يرسلها لنا.. كيف؟
قلب الأنسان مثل الإناء، إما أن تملأه الدنيا بزينها وسعادتها الزائفة، أو نملأه بحب الله فنحصل على السعادة الحقيقية الدائمة، ولأننا أناس ناقصون معيبون، ولأن الدنيا براقة مغرية جذابة، فنحن بحكم خلقتنا ننجذب اليها ونرغب فيها ونأمل فيما عندها، فأعطانا الله العبادات لنطهر بها قلوبنا باستمرار، ونمسح عنها زخرف الدنيا لنستقبل ما يمنحنا إياه من حب وسعادة.
نحن نتأرجح على الدوام بين مغريات الدنيا التي تدخل قلوبنا وبين تطهيرها بالعبادات لنستقبل سعادة الله التي منحها لنا.
هذه هي حقيقة الدنيا التي يجب أن نعرفها، حتى لا يمكث الحزن في قلوبنا كثيرا، ولا نفتقد السعادة التي يمنحنا الله لنا كثيرا.
منذ أن عرف هذه الحقائق وهو يحاول جاهدا ان يبقى قلبه نظيفا مستعدا دائما لاستقبال هذه السعادة، ويتقبل هدايا الله له من أصدقاء واحباء يرسلهم الله في طريقه بين الحين والأخر ليكونوا رفقاء هذا الدرب القصير حتى يصلوا جميعا الى السعادة الدائمة في جوار الله يوم يتحقق وعده لهم بجنة الخلد حيث لا ألم ولا تعب ولا نصب ولا مرض ولا فراق.

19-7-2018